سورة الحديد - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


{سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)}.
التفسير:
قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
هو- كما قلنا- خبر يحدّث عن أثر هذا الأمر الذي ختمت به سورة الواقعة في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.
وكأن هذا الخبر جواب يجاب به عن سؤال يرد على هذا الأمر بالتسبيح، وهو: ما وقع هذا الأمر على الوجود؟ فكان الجواب: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
فهذا التسبيح والولاء للّه، إنما هو شأن الوجود كله، فهو قائم على التسبيح والولاء للّه، في كل لحظة، وفى كل آن، لأنه في قبضة عزيز ذى سلطان متمكن، ومع هذه العزة المتمكنة للّه، فهو حكيم في تدبيره، وتقديره، لا يعتسف الأمور اعتسافا، ولا يقضى فيما يقضى به عن هوّى وتسلط.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
ويجوز أن يكون هذا الخبر بالتسبيح إغراء بهذا الأمر الذي أمر اللّه به الإنسان أن يسبح باسم ربه العظيم.. وكان النظم هكذا: فسبح باسم ربك العظيم، الذي سبح له ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم.
فهيا أيها الإنسان لتأخذ مكانك بين موكب الوجود المتجه إلى اللّه، المسبح بحمده {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [44: الإسراء] قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هو بيان لقدرة اللّه، وعرض لسلطانه المطلق في هذا الوجود.. فهو سبحانه، المالك لما في السموات والأرض جميعا، وهو سبحانه، الذي يحيى ويميت، وهو سبحانه، القادر على كل شىء.. لا يعجزه شيء مما يظن أولئك المشركون أنه في قائمة المستحيلات.
قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
ومن صفاته سبحانه أنه الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء.. فلا أول قبله، ولا آخر بعده.. وإذا كان الأول، فكل ما سواه صنعة يده، وإذا كان الآخر، فكل شيء هالك إلا وجهه.
وهو سبحانه {الظاهر} في آياته وفى كل ما بثّ في هذا الوجود من موجودات، حيث تتجلى في هذا الوجود آيات قدرته، وعلمه، وحكمته.
وهو سبحانه {الباطن} الذي {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [103: الأنعام].
وهو سبحانه {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [14: الملك].
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
ومن صفاته سبحانه، أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه أقام سلطانه عليهما.
وأنه {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي ما يغوص في باطنها، من حبّ وماء، ومعادن، وغيرها.. ويعلم: {ما يَخْرُجُ مِنْها} من نبات، وما يتفجر من عيون، وما يستخرج منها من معادن.
ويعلم سبحانه: {ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ} من ماء، ومن ملائكة، ومن وحي يوحى به إلى عباده، ويعلم {ما يَعْرُجُ فِيها} أي ما يصعد إلى السماء من ملائكة، ودعوات، وصلوات، يرفعها عباده المؤمنون إليه.
وفى التعبير عن الصعود إلى السماء بالعروج إشارة إلى صورة الفلك، وأنه دائرى، وأن العروج إليه، والنفوذ من أقطاره لا يكون إلا في خطوط متعرجة منحنية.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ} إشارة إلى أنه سبحانه- مع سعة هذا الملك- هو موجود بعلمه وقدرته وتدبيره، في كل مكان منه، وفى كل ذرة فيه.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إشارة أخرى إلى نفوذ علم اللّه إلى كل ما يجرى في ملكه.. وأن هؤلاء الذين يستبعدون أن يكون اللّه سبحانه أقرب إليهم من حبل الوريد، لا ينبغى لهم أن يستبعدوا أنه يراهم، ويرى كلّ ما يعملون.. فمن كان يظن أن اللّه ليس معه، فهو يراه! قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} هو توكيد لما قررته الآيات السابقة، من بسطة سلطان اللّه، وشهوده لكل شيء في هذا الوجود، فهو سبحانه له ملك السموات والأرض، وأنه لا يملك الشيء ملكا متمكنا إلا إذا كان هذا الشيء طوع أمره، وتحت سمعه وبصره.
وقوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي إليه يرجع كل أمر، فلا يقع في ملكه شيء إلا بأمره وتقديره.
قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي ومن قدرة اللّه سبحانه أنه {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ} أي يدخل النهار في الليل، فيختفى الليل، ويظهر النهار، {وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} أي يدخل الليل في النهار، فيختفى النهار، ويظهر الليل.. ففى الليل نهار مطوىّ، وفى النهار ليل مخفىّ.. {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} [37: يس].
فهذا ظلام يخرج من أحشاء النور.. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} [12: الإسراء] وهذا نور يتفجر من باطن الظلام.. وهذا من بعض مظاهر القدرة القادرة التي تلبس المتناقضين ثوبا واحدا.. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [95: الأنعام] وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} تقرير لهذه الحقيقة التي تحدث عن نفوذ علم اللّه، إلى ما في الصدور، من وساوس وخواطر.. وهذه شواهد قدرته سبحانه، فيما بين الليل والنهار من امتزاج وافتراق في وقت معا.


{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}.
بعد هذا البيان المبين الذي عرضت فيه الآيات السابقة بعض ما للّه سبحانه وتعالى من قدرة، وتصريف في هذا الوجود، وماله من علم يحيط بكل شىء، وينفذ إلى خفايا الصدور، وخوالج النفوس- بعد هذا جاءت دعوة اللّه إلى عباده أن يستجيبوا للّه، وأن يؤمنوا به وبرسوله، وأن ينفقوا مما أعطاهم من فضله، وجعلهم خلفاءه فيه ووكلاءه عليه.. وأنه ليس للخليفة، أو الوكيل أن يخالف أمر من استخلفه أو وكله.
فالإيمان باللّه، والولاء له، والتصديق برسوله، هو حق الخالق على المخلوق.
والإنفاق من عطاء اللّه في سبيل اللّه، هو حق هذا العطاء، ومطلوب الشكر عليه.
ومع أن الإيمان باللّه، والإنفاق من مال اللّه في سبيل اللّه، هو حق مطلوب أداؤه، وأداء الحقوق، هو إبراء الذمة، لا يستوجب جزاء.. ومع هذا، فقد أوجب اللّه سبحانه على نفسه- فضلا وإحسانا- أن يجزى على أداء تلك الحقوق جزاء كريما، وأجرا كبيرا.. {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} قوله تعالى {وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بعد أن جاءت تلك الدعوة الآمرة الهاتفة بالإيمان باللّه والإنفاق في سبيله في قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، وبعد أن أعقب هذه الدعوة هذا الوعد الكريم من اللّه سبحانه وتعالى بالجزاء العظيم، والأجر الكبير لمن يستجيب لها- جاءت الآيات بعدها لتناقش هذه الدعوة، ولتلقى أولئك المترددين في قبولها، لقاء المنكر عليهم موقفهم هذا، المطالب لهم ببيان العلة أو العلل التي تحول بينهم وبين إجابة داعى اللّه الذي دعاهم.. {وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ؟} أي أىّ شيء يحول بينكم وبين الإيمان باللّه.. وهذا رسول اللّه إليكم، يدعوكم لتؤمنوا بربكم؟ لما ذا لا تجيبون دعوة اللّه وتؤمنون به؟
إن دعوتكم إلى الإيمان باللّه، وبعث رسول من عند اللّه إليكم بها، هو فضل من فضل اللّه عليكم، وإحسان من إحسانه إليكم، إذ كان من شأنكم أن تكونوا مؤمنين، من غير دعوة مجدّدة إليكم.. فلقد دعاكم اللّه سبحانه وتعالى إلى الإيمان من قبل، وأخذ ميثاقكم وأنتم في ظهور آبائكم، فأجبتم ولبيتم.. فما لكم لا تذكرون هذا الميثاق، ولا توفّون به؟ ثم مالكم إذ قد نقضتم الميثاق، أن تجددوه على يد الرسول الذي بعثه اللّه إليكم ليذكر كم به، ويقيمكم عليه؟.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
أي إن كنتم ما زلتم على إيمانكم باللّه الذي وثّقه معكم وأنتم في ظهور آبائكم- فما لكم لا تؤمنون بما يدعوكم إليه الرسول من إيمان، وهو إنما يدعوكم إلى هذا الإيمان الذي آمنتم به من قبل؟ وعلى هذا يكون مفهوم نظم الآية هكذا: {وما لكم لا تؤمنون باللّه إن كنتم مؤمنين} وأما قوله تعالى: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ} فهما جملتان حاليتان تكشفان عن حال المخاطبين وهم يدعون إلى الإيمان ولا يجيبون دعوة الداعي.
وهذا يعنى أن دعوة الإسلام، هى دعوة تلتقى مع الفطرة التي فطر الناس عليها، وأن من يرفض هذه الدعوة أو ينكرها، فهو منحرف عن الفطرة، حائد عن طريقها.
والميثاق الذي أخذه اللّه سبحانه على الناس، هو فطرتهم التي أودعها فيهم، والتي يولد عليها كل مولود، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى!} [172: الأعراف].
فكل مولود يولد سليما معافى من داء الشرك والضلال، أشبه باللبن يخرج من الضرع.. وقد يتعرض هذا اللبن للعطب والفساد بما يعلق به من أفذار، وما يتخلّق من هذه الأقذار من جراثيم.
وفى الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
ودعوة الإسلام، هى دعوة إلى الفطرة، وإلى تطهيرها مما يكون قد علق بها من آفات.. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [30: الروم].
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}.
هو بيان لفضل اللّه على عباده، إذ يجدّد دعوته إليهم، ويدعوهم إلى توثيق الميثاق الذي نقضوه، بما ينزل على عبده محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، من آيات بينات، ليخرجهم بها من الظلمات إلى النور، وليعيد إليهم فطرتهم التي أفسدوها.. وهذا من رأفة اللّه سبحانه بعباده، ورحمته بهم.. {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}.
فسبحانه، سبحانه، من رب كريم، برّ رحيم!! وألا خسر وخاب من أعرض عن ربه، وأسلم زمامه ليد شيطانه!.
وفى قوله تعالى: {ينزل} إشارة إلى أن القرآن لم يكن قد تمّ نزوله بعد، وأنه مازال يتنزل حالا بعد حال.
وفى قوله تعالى: {عَلى عَبْدِهِ} دون أن يذكر اسم هذا العبد- إشارة إلى أنه هو عبد اللّه، الذي تتحقق فيه صفة العبودية الكاملة للّه، حتى أنه إذا أضيف إليه هذا العبد من غير ذكر اسمه، لم يكن المقصود إلا هو، وهو محمد صلوات اللّه وسلامه عليه.. وهذا مقام جليل لا يبلغه أحد من عباد اللّه.. فصلى اللّه عليك يا رسول اللّه، وعلى آلك، والمهتدين بهداك، وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
قوله تعالى: {وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ.. أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا.. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى.. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.}.
والشقّ الآخر من شقّى الدعوة التي يدعو اللّه سبحانه عباده إليها، بعد الإيمان به، هو الإنفاق في سبيله.
فإذا استجاب العبد لدعوة اللّه، وآمن به، فلم لا ينفق في سبيله؟
ولم يمسك هذا المال الذي آتاه اللّه؟ ولم يضنّ به على الإنفاق فيما يدعوه.
إليه؟ أله شيء من هذا المال؟ أليس هذا المال من مال اللّه؟ وهل يملك أحد شيئا، مع اللّه سبحانه الذي له ملك السموات والأرض؟ وهل يبقى هذا المال في يد ممسكيه إلى الأبد؟ وكيف.. وللّه ميراث السموات والأرض؟ فمن أمسك هذا المال الذي في يده، فهو صائر يوما إلى غيره.
ثم هو صائر آخر الأمر إلى اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} [40: مريم].
وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا} هو خطاب للمنفقين في سبيل اللّه، وأنهم ليسوا على درجة واحدة في الثواب والجزاء على ما أنفقوا.
فالذين أنفقوا- ولو قليلا- في ساعة العسرة، وفى حال كان الإسلام فيها في دور الامتحان والابتلاء، لم تثبت قدمه بعد، ولم يتمكن سلطانه- الذين أنفقوا في هذه الحال، وقاتلوا، هم أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد الفتح، وبعد أن علت راية الإسلام، وانجحر الشرك، ودالت دولة المشركين.
فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح- وهو فتح مكة، أو صلح الحديبية- إنما كانوا ينفقون ويقاتلون ابتغاء وجه اللّه، من غير أن ينظروا إلى مغانم تقع لأيديهم، ومن غير أن يكون لسلطان الإسلام قوة قاهرة تدعوهم إليه، أو سلطان ظاهر يغريهم به، وإنما أنفقوا ما أنفقوا من أموال ونفوس، لما وقع في نفوسهم من إيمان باللّه، وطمع في رضوانه.
وهؤلاء هم الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [10- 11 الواقعة].
كما أشار إليهم سبحانه بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [100: التوبة].
أما الذين أنفقوا بعد الفتح، وقاتلوا في سبيل اللّه، فإنما ينفقون ويقاتلون، وقد أنفق الناس جميعا وقاتلوا، سواء منهم من نظر إلى سلطان الإسلام، أو لم ينظر.. وشتان بين منفق ومنفق، ومقاتل ومقاتل.
فتلك حال وهذه حال، ولكلّ من الحالين حساب وتقدير..!
وقوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى} أي أن كلا من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا- هؤلاء وهؤلاء قد وعدهم اللّه الحسنى، أي المنزلة الحسنى، أو العاقبة الحسنى.
فهم جميعا في رضوان اللّه.. وإن اختلفت حظوظهم ومنازلهم من هذا الرضوان.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إشارة إلى ما يصحب هذه الأعمال من نيّات.. فقد يتلبس العمل السابق بنية تحبطه، لأنه لم يكن خالصا لوجه اللّه.. وقد يجىء العمل المتأخر مصحوبا بنية خالصة لوجه اللّه، فيسبق المتأخر المتقدم.. «وإنما لكل امرئ ما نوى».
وهذا مما يعلمه اللّه سبحانه وتعالى من عباده، وما انعقدت عليه نياتهم.
وفى قوله تعالى: {أَنْفَقَ وقاتَلَ} وفى الجمع بين الانفاق والقتال في سبيل اللّه- في هذا إشارة إلى أن الإنفاق ليس مقصورا على المال وحده، وإنما هو إنفاق من النفوس، وبذلها في سبيل اللّه.. فمن لم يكن ذا مال لم يحرم اللّحاق بالمنفقين من أموالهم، وذلك بالإنفاق من ذات نفسه، ومن كان ذا مال لم يمنعه الإنفاق من ماله أن ينفق من ذات نفسه، فيجمع إحسانا إلى إحسان، وقد يكون الإنفاق إلى جانب النفس والمال، إنفاقا من حصافة الرأى، وحسن التدبير، والنّصح للمؤمنين.
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى أن يقرضه المؤمنون مما أعطاهم، فيضاعف لهم هذا القرض، ويجزيهم عليه الجزاء الأوفى.
وإنه ليس بعد هذا عذر لمعتذر ممن يؤمنون باللّه واليوم الآخر في ألّا يجيبوا دعوة اللّه سبحانه وتعالى، وألّا ينفقوا مما خولهم إياه، وجعله ملكا خالصا لهم، فيأخذ منهم ما أنفقوا أخذ المقترض، الذي يشكر لمقرضه، ويحمد صنيعه معه.. فسبحانه سبحانه من رب بر رحيم!!! والقرض الحسن، هو أن يكون من مال مكتسب من حلال، وأن يكون من أكرم مال المنفق وآثره عنده، وأن يخرجه من يده عن طيب خاطر، ورضا نفس، وأن يكون الإنفاق والنفس راغبة في الحياة، مقبلة عليها، لا بعد أن يهرم المرء ويذهب شبابه، وتنطفىء حدة رغباته، وشهواته.


{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
الظرف هنا متعلق بقوله تعالى في الآية السابقة: {فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي أن الذي يقرض اللّه قرضا، فيضاعفه اللّه سبحانه وتعالى له، ويعطيه الأجر الكبير عليه- إنما يجد ذلك يوم القيامة، يوم ترى- أيها الرائي في ذلك اليوم- المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم.
والمراد بالنور- واللّه أعلم- هو الإيمان، وما يتبعه من الأعمال الصالحة، حيث يكون هذا الإيمان نورا هاديا لأصحابه إلى الجنة.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.
(9: يونس).
والنور الذي في أيمان المؤمنين والمؤمنات يومئذ، هو صحف أعمالهم التي يتناولونها بأيمانهم. فتكون أمارة من أمارات السلامة والنجاة، كما تكون نورا هاديا يتجه بهم إلى طريق الجنة.
وقوله تعالى: {بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هو النداء الذي ينادى به المؤمنون والمؤمنات من الملائكة يوم القيامة، حيث يلقونهم مرحبين بهم، مسرعين إليهم بزفّ هذه البشرى المسعدة، مهنئين لهم بما ظفروا به من رحمة اللّه ورضوانه في هذا اليوم العظيم.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ.. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ}.
هو وصف لموقف من تلك المواقف التي تجرى يوم القيامة بين أهل المحشر، من خصام، وملاحاة، وترام بالتّهم، وقذف بالشناعات.
وهنا موقف بين المنافقين والمنافقات، وبين المؤمنين والمؤمنات.
ذلك أنه حين يرى المنافقون والمنافقات أن المؤمنين والمؤمنات قد زايلوا موقف الحشر، وساحة القضاء، إلى دار الخلد والنعيم، يسعى بهم نورهم إلى دارهم تلك- حين يرى المنافقون والمنافقات ذلك، يركبهم الكرب، ويستبدّ بهم الفزع، بعد أن انطلق المؤمنون والمؤمنات من بينهم، وأخذوا طريقهم إلى الجنة.. وهنا يحاول المنافقون والمنافقات أن يتعلقوا بأذيالهم، وأن يلحقوا بهم. فينادونهم: {انظرونا} أي انتظرونا وأمهلونا قليلا {نقتبس من نوركم} أي نمشى على نوركم، ونتعرف على طريق السلامة بالجري على آثاركم.
وقوله تعالى: {قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} هو الجواب الذي يجاب به على ما سأل المنافقون والمنافقات بقولهم: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}.
وقد يكون هذا الجواب من المؤمنين والمؤمنات، وقد يكون من الملائكة.. ولهذا بنى الفعل للمجهول، ذلك لأن هذا الجواب هو الجواب الذي لا جواب غيره، وإن لم ينطق به أحد.. فهو جواب الحال، قبل أن يكون جواب المقال.. وهو ردع للمنافقين والمنافقات، وحبس لهم في أماكنهم التي هم فيها لا يبرحونها، حتى يقضى الحق فيهم قضاءه.
وقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ}.
ضرب بينهم: أي أقيم، ورفع بين المنافقين والمنافقات، والمؤمنين والمؤمنات، هذا الحجاز، وهو سور أي حائط، له باب، هو الباب الذي دخل منه المؤمنون والمؤمنات إلى ساحة الرحمة والمغفرة، وقد أغلق بعد أن دخل المؤمنون والمؤمنات إلى رضوان اللّه، وبقي في الخارج المنافقون والمنافقات ينتظرون قضاء اللّه سبحانه وتعالى فيهم، وإنه لقضاء عدل، حيث ينال المنافقون والمنافقات جزاء ما كانوا يعملون.
ويلاحظ هنا في هذا الموقف، أن المؤمنين والمؤمنات، والمنافقين والمنافقات، كانوا في موقف الحساب والمساءلة، وأن المؤمنين والمؤمنات قد فصل في أمرهم، وبرئت ساحتهم، وسيقوا إلى الجنة زمرا، وأن المنافقين والمنافقات قد همّوا ليلحقوا بهم، فضرب بينهم بهذا السد، وهو سد يحول بين المنافقين والمنافقات وبين الخروج من مكانهم الذي هم فيه.. وفى التعبير عن إقامة هذا الحاجز أو هذا السور بين أهل الجنة وأهل النار- في الإشارة إلى هذا بالضرب، ما يدل على أن هذا السور قد أقيم مرة واحدة، في لحظة خاطفة، ولم بين لبنة لبنة، وجزءا جزءا.. وشبيه بهذا ما يقام من خيام، فإنه يسمّى في حال إقامته بالضرب.. كما يقول الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى *** في قبّة ضربت على ابن الحشرج
كما أن الضرب للشىء يستعمل لما يلزم ويدوم منه، كما في قوله تعالى {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [61: البقرة] أي لزمتهم الذلة والمسكنة لزوما دائما لا يزول.
أما الباب الذي لهذا السور، فهو معدّ لمن بقي من أهل السلامة في الموقف، ولم يدخل الجنة بعد، ولم يلحق بالذين سبقوا من المؤمنين، حيث أبطأ به عمله.. ولكنه مع هذا سائر على طريق النجاة.. فإذا بلغ أول هذا الطريق، دخل من هذا الباب، فوجد أرواح الرحمة، والرضوان.
وقوله تعالى: {باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} إشارة إلى أن الذين يجوزون هذا السور من المؤمنين والمؤمنات، يجدون ريح الجنة، وراء هذا الباب القائم على السور، أما الذين ظلوا في موقف الحشر، خارج هذا السور، فإنه لا يطلع عليهم في موقفهم هذا إلا نذر الشر، والعذاب.
قوله تعالى: {يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟. قالُوا بَلى! وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.
أي أن المنافقين والمنافقات، وقد وجدوا المؤمنين والمؤمنات، أخذوا طريقهم إلى الجنة، ولم يستجيبوا لندائهم أن: {انظرونا نقتبس من نوركم} حين رأوا ذلك عجبوا لهم، وجعلوا يسائلونهم: {ألم نكن معكم}؟ أي: ألم نكن نحسب من المؤمنين، بينكم؟ ألم تعاملونا معاملة أهل الإيمان؟
فلما ذا تتبرءون منا الآن، وتأخذون طريقا وحدكم، لا حساب لنا فيه معكم؟
ويأتيهم الجواب من المؤمنين: {بلى}!! أي لقد كنتم حقّا معنا، ولكن بألسنتكم- أيها المنافقون والمنافقات، لا بقلوبكم- كان إيمانكم، وبهذا دخلتم مدخل المؤمنين في الدنيا، بهذه الثياب الزائفة من النفاق، التي اتخذتموها زيّا لكم، لتدخلوا به في زمرة المؤمنين.. أما قلوبكم فهى على ما هى عليه من ضلال، وشرك، وكفر.. وأنتم هنا في هذا الموقف- موقف القيامة- إنما تحاسبون على ما في قلوبكم، وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى ما بها من نفاق!! لقد كنتم معنا، وكنتم في حساب المؤمنين، لأننا لا نعلم ما في قلوبكم من نفاق وخداع.. ولكنكم كنتم في حقيقة الأمر، على غير سبيل المؤمنين.. فلقد {فتنتم أنفسكم}، وأوردتموها موارد الضلال، {وتربصتم} أي كنتم تتربصون بالمؤمنين، وتنتظرون ما يحلّ بهم من هزيمة وخذلان، فتنفضون أيديكم منهم، وتجدون لكم طريقا إلى عدوهم.
{وارتبتم} أي كنتم في ريبة وشك من دين اللّه، فلم تؤمنوا به عن صدق ويقين، {وغرتكم الأمانى} أي وظللتم في خداع أنفسكم بتلك الأمانى الباطلة، التي كنتم تمنونها بها {حتى جاء أمر اللّه} أي حتى جاءكم الموت، وأنتم في هذا الموقف من التربص والريبة والغرور.. {وغركم باللّه الغرور} أي أنكم كنتم في هذا كلّه منقادين للشيطان الذي دعاكم إليه، وزين لكم طريق الضلال، فاستجبتم له، وغررتم بخداعه وضلاله.
والغرور، هو الشيطان، لأن التغرير بالناس، هو وظيفته التي خلق لها.
قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
هو مما يردّ به على المنافقين والمنافقات، يوم القيامة، بعد أن سمعوا ما يسوؤهم، جوابا على قولهم للمؤمنين: {ألم نكن معكم}؟ إنهم لم يكونوا من المؤمنين، بل كانوا على نفاق خفىّ انكشف أمره يوم القيامة، ولهذا فهم يساقون إلى النار، مع الكافرين، لأنهم في الحقيقة كانوا كافرين، وإن حسبوا في ظاهر أمرهم من المؤمنين.
وإنه لن يقبل منهم فدية يفتدون بها أنفسهم من هذا العذاب.. تماما كما لا يقبل من الكافرين فدية.. إنهم على سواء في الكفر والضلال.
وقوله تعالى: {مَأْواكُمُ النَّارُ} تأكيد لقوله تعالى: {لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ}.
فالفدية إنما هى فدية من النار، وإذا لم تقبل الفدية فليس إلا النار.
وقوله تعالى: {هِيَ مَوْلاكُمْ}.
هى الولىّ الذي يضمكم إليه، وتقوم بينكم وبينه المودّة والتآخى.. إنه لا بد لكم من ولىّ، وقد انقطعت بينكم وبين المؤمنين والمؤمنات حبال الولاء، وليس بعد ولاية المؤمنين إلا ولاية الكافرين.. والكافرين في النار، فخذوا مكانكم معهم فيها.

1 | 2